فصل: قال المراغي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة القدر:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر}
أي: أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين، بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3]، وكانت في رمضان، لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
قال الإمام: سميت ليلة القدر، إما بمعنى ليلة التقدير؛ لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دِينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه، أو بمعنى العظمة والشرف، من قولهم: فلان له قدر، أي: له شرف وعظمة؛ لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة، وقد جاء بما فيه الإشارة، بل التصريح، بأنها ليلة جليلة؛ بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن. فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر} أي: وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها.
{ليلة القدر خَيْرٌ مِّنْ ألف شهر} فكرر ذكرها ثلاث مرات. ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به، ثم قال: إنها خير من ألف شهر لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهو يختبطون في ظلمات الضلال؛ فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص، وتفوض الأمر، في تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر، إلى الله تعالى؛ فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب. وذلك في الكتاب كثير، ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور {وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر} فإنه جار على عادتهم في الخطاب، وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء. فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له، بل الغرض منه التكثير، وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة. فإذا قلت: إخفاء الصدقة خير من إظهارها، لم تعين درجة الأفضلية، وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة، هي واقعة بدر أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة، أو بثلاثة آلاف، أو بخمسة آلاف، كما تراه في الأنفال وآل عمران؛ فالعدد هناك لا مفهوم له، كما هو ظاهر. فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله، ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} يخبر جل شأنه أن أول عهد للنبي صلى الله عليه وسلم بشهود الملائكة كان في تلك الليلة، تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحدهُ حد ولا يحيط به مقدار، حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، والروح هو الذي يتمثل له مبلغًا للوحي، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل. وإنما تظهر الملائكة والروح {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم، فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذه الإذن مبدؤه الأوأمر والأحكام؛ لأن الله يجلي الملائكة على النفوس، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال: {مِّن كُلِّ أمر} أي: أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده، فيكون الإذن مبتدئًا من الأمر على هذا المعنى. والأمر ها هنا هو الأمر في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ أمرا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 4- 5]، فالكلام في الرسالة والأوأمر والأحكام، لا في شيء سواها؛ ولهذا قال بعضهم: إن من ها هنا بمعنى الباء، أي: بكل أمر. ولا حاجة إليه لما قلنا. وإنما عبر بالمضارع في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ} مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن لوجهين:
الأول: لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقول الرَّسُولُ} [البقرة: 214]، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرًا.
والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوأمر والأحكام كان فيما بعد، فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين. وقوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر} أي: أنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى. والإخبار عنها بالسلام نفسه- وهو الأمن والسلامة- للمبالغة في أنهُ لم يَشُبْها كدر، بل فرَّج الله فيها عن نبيه كل كربة وفتح له فيها سبل الهداية، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيامَ والشهور الطوال.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن} ولا إجماع في تعيين تلك الليلة، بل في صحيح البخاري: أنها «رفعت». أي: رفع العلم بتعيينها. وفي رواية فيه: «نسيتها أو أنسيتها»، من قوله صلوات الله عليه. ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه. نعم الأقوى رواية أنها في «العشر الأخير من رمضان» لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله. وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين، قال ابن حجر: وحجتهم حديث واثلة: أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان. وقد اضطربت أقوال السلف فيها- صحابة ًومن بعدهم- حتى أنافت على أربعين قولا.
قال الإمام: ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان، ولا نعيّنها من بين لياليه. فقد اختلف فيها الروايات اختلافًا عظيمًا، وكتاب الله لم يعينها، وما ورد في الأحاديث من ذكرها، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة؛ شكرًا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم، في أثنائها. ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادًا وجماعات، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله. وهذا هو السر في عدم تعيينها. وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفًا لنزول القرآن، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه؛ فهي ليلة عبادة وخشوع، وتذكر لنعمة الحق والدين. فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء، يتسابق إليها المنافقون ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون، كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام، فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه، ويسمعون شيئًا من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه، بل إن أصغوا إليه فإنما يصغون لنغمة تاليه، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره، ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال، فضلًا عن الراشدين من الرجال. انتهى.
وقال الطبريّ: إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة؛ إذ لو كان ذلك حقًا، لم يخف على كل من قام ليالي السنة، فضلًا عن ليالي رمضان.
الثاني: حكى الحافظ ابن جحر في (فتح الباري) قولا عن بعض العلماء، أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل مستنده ما صحّ أنها «رفعت». وقد قدمنا معناه؛ ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه.
وعندي أن لا تنافي؛ لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن وما كان فيها من التجليّ الخاص التي انفردت به، وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام، هي ليلة فيها مزية على غيرها، بفضل اختصت به دون غيرها. وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه. أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركًا وتيمنًا وشكرًا لله تعالى على تلك النعمة والهداية، فالقائم في ليالي العشر الأخير، أو في رمضان، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة؛ لأنها منه قطعًا. وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسمًا للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخَر في تذكاراتهم وجعلها أعيادًا، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو، مما ينافي حكمة ذكراها؛ فتأمّل الفرق واحمد الله على اتباع الحق.
الثالث: قال الإمام: ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك لم يرد؛ لاضطراب الروايات، وضعف أغلبها، وكذبِ الكثير منها. ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العِزّة، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين، لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كنا من الذين {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [الأنعام: 116] نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويُعدّ من عقائد الدين، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل، فاحذر أن تقع فيها مثلهم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى. اهـ.

.قال المراغي:

سورة القدر:
هي مكية.
وآياتها خمس.
نزلت بعد سورة عبس.
ومناسبتها لما قبلها- أن في تلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وفى هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله، وأنه من عند ربه ذى العظمة والسلطان، العليم بمصالح الناس وبما يسعدهم في دينهم ودنياهم، وأنه أنزله في ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة الكريمة.
[سورة القدر (97): الآيات 1- 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي ليلة القدر (1)}

.شرح المفردات:

{القدر}: العظمة والشرف، من قولهم لفلان قدر عند فلان: أي منزلة وشرف، {تنزل الملائكة}: أي تنزل وتتجلى للنفس الطاهرة التي هيأها اللّه لقبول تجليها، وهى نفس النبي الكريم، {سلام}: أي أمن من كل أذى وشر، {مطلع الفجر}: أي وقت طلوعه.

.تقدمة تبين ميقات هذه الليلة:

أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم في أربعة مواضع من كتابه الكريم، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
(1) في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي ليلة القدر}.
(2) في سورة الدخان: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ أمرا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
(3) في سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهدى وَالْفُرْقانِ}.
(4) في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فآية القدر صريحة في أن إنزال القرآن كان في ليلة القدر، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان في ليلة مباركة، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان في شهر رمضان، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله كان في ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين في غزوة بدر، التي فرق اللّه فيها بين الحق والباطل، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان، ومن ذلك يتضح أن هده الليلة هي ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان.

.الإيضاح:

{إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي ليلة القدر} أي إنا بدأنا ننزل الكتاب الكريم في ليلة الشرف، ثم أنزلناه بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي كانت تدعو إلى نزول شيء منه، تبيانا لما أشكل من الفتوى فيها، أو عبرة بما يقص فيه من قصص وزواجر، ولا شك أن البشر كان في حاجة إلى دستور يبين لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم، ويوضح لهم أمر النشأة الأولى وأمر النشأة الآخرة، لأنهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقة حتى يسنّوا لأنفسهم من النظم ما يغنيهم عن الدين والتدين، وحوادث الكون التي نراها رأى العين كفيلة بأن تبين وجه الحق في ذلك، فإن الناس من بدء الخليقة يبدئون ويعيدون. ويصححون ويراجعون في قوانينهم الوضعية، ثم يستبين لهم بعد قليل من الزمن أنها لا تكفى لهدى المجتمع والأخذ بيده إلى موضع الرشاد، وتمنعه من الوقوع في مهاوى الزلل، ومن ثم قيل: لا غنى للبشر عن دين ولا عن وازع روحى يضع لهم مقابيس الأشياء وقيمها بعد أن أبان لهم العلم وصفها وخواصها، كما لا غنى له عن الاعتقاد في قوة غيبية يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشك، وتختلط عليه صروف الحياة وألوان مآسيها. اهـ.
ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط به إلا هو فقال: {وَما أَدْراكَ ما ليلة القدر} أي ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها، ومنتهى علوّ قدرها.
وفى هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم وأنشأها من العدم.
ثم أوضح مقدار فضلها فقال: {ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر} لأن ليلة يسطع فيها نور الهدى وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل لخير البشر، ويكون فيها وضع الحجر الأساسى لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم في كل زمان ومكان، هي خير من ألف شهر من شهورهم التي كانوا يتخبطون فيها في ظلام الشرك وضلال الوثنية، حيارى لا يهتدون إلى غاية، ولا يقفون عند حد.
وقد يكون التحديد بالألف جاريا على ما يستعملونه في تخاطبهم من إرادة الكثرة منه، لا إرادة العدد المعين، كما جاء في قوله: {يَوَدُّ أحدهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}.
واللّه تعالى يفضل ما شاء من زمان ومكان لمعنى من المعاني التي تدعو إلى التفضيل، وله الحكمة البالغة.
وأي عظمة أعلى من عظمة ليلة يبتدئ فيها نزول هذا النور والهداية للناس بعد أن مضت على قومه صلى الله عليه وسلم حقب متتابعة وهم في ضلال الوثنية.
وأىّ شرف أرفع من شرف ليلة سطع فيها بدر المعارف الإلهية على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة بعباده، يبشرهم وينذرهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويجعل منهم أمة تحرر الناس من استعباد القياصرة، وجبروت الأكاسرة، ويجمعهم بعد الفرقة، ويلمّ شعثهم بعد الشتات.
فحقّ على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدا لهم، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي، الذي وجه المسلمين تلك الوجهة الصالحة النافعة، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم، شكرا له على نعمه، ورجاء مثوبته.
ثم ذكر سبحانه بعض مزايا هذه الليلة المباركة فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أمر} أي تنزلت الملائكة من عالمها الروحاني حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، وتمثل له الروح (جبريل) مبلّغا للوحى، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ عباده ما فيه الخير والبركة لهم.
ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شئونه تعالى، لا نبحث عن كيفيته، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره، فما عرف العالم بعد علمه المادي بشتى وسائله إلا النذر اليسير من الأكوان كما قال تعالى: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
والخلاصة- إن هذه الليلة عيد للمسلمين لنزول القرآن فيها، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك، تشاركهم فيها الملائكة بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان وقد استخلفه اللّه في الأرض.
{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر} أي هذه الليلة التي حفّها الخير بنزول القرآن، وشهود ملائكة الرحمن، ليلة كلها سلامة وأمن، وكلها خير وبركة، من مبدئها إلى نهايتها ففيها فرّج اللّه الكرب عن نبيه، وفتح له سبل الهداية والإرشاد. وصل وسلم ربّنا على محمد الذي أكرمته بإنزال الدستور الشامل لخير البشر إلى يوم القيامة. اهـ.